فصل: مطلب معنى الورود وأن مرتكب الكبيرة لا يخلد بالنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب معنى الورود وأن مرتكب الكبيرة لا يخلد بالنار:

واعلم أن الورود موافاة المكان، وقال أكثر المفسرين إنه بمعنى الدخول، وأنكره ابن الأزرق، وأقسم ابن عباس بأنّه سيدخلها هو وهذا المنكر، وقال أرجو أن يخرجني بتصديقي، وما أراه يخرجك بتكذيبك.
واحتج بالآية 98 من سورة الأنبياء وهي {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.. إلخ. والآية 19 من سورة هود أيضا وهي {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} إلخ.
وحجة ابن الأزرق بهاتين الآيتين أيضا، ولكن المتعارف أن الورود غير الدخول، قال في القاموس: الورود الإشراف على الماء دخله أو لم يدخله، ففارق معنى الدخول من الجهة الثانية {كانَ} ذلك الورود إلى جهنم لكل من البشر كما أقسم اللّه تعالى {عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} 71 لازما مبرما حقا.
قال بعض المفسرين إن في هذه الآية معنى القسم، وهي كذلك، ولكن بقطع النظر عما قبلها، وإلا فهي قسم كالتي قبلها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لا يموت لأحد ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم».
وأراد به الآية المارة أي واللّه ما منكم من أحد إلا ويرد جهنم.
وروى مسلم عن أم مبشر الأنصاري أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عند حفصه: «لا يدخل النار إن شاء اللّه من أصحاب الشجرة أحد»، أو من الذين بايعوه تحتها الوارد ذكرهم في الآية 19 من سورة الفتح، قالت بلى يا رسول اللّه، فانتهرها لأنها لم تقل إن شاء اللّه، فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} فقال صلى اللّه عليه وسلم جوابا لها ما قاله ربه: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الأسباب الموجبة لدخولها من الكفر ودواعيه، ولم يصروا على ما فعلوه من المعاصي الكبيرة برحمتنا {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} 72 بعدلنا لاختيارهم الكفر على الإيمان وإصرارهم عليه إلى الوفاة، ولا دليل في هذه الآية لمن يقول إن الفاسق وصاحب الكبيرة يخلد في النار، لأن المراد بالتقي المستثنى من الورود من اتقى الشرك، لأن من آمن باللّه ورسوله يصح أن يقال له متق الشرك ولو كان مقترفا الكبائر من غير استحلال، لأن المستحل لها كافر، ومن صدق عليه أنه متق الشرك صح عنه أنه متق، لأن التقى جزء من التقى من الشرك، ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد مثبت أن صاحب الكبيرة والفاسق متق، وإذا ثبت لك هذا وجب أن لا يخلد في النار وأنه يخرج منها لعموم هذه الآية، وعليه إجماع الأمة من علماء التوحيد، قال صاحب الشيبانية:
ولا يبقى في نار الجحيم موحّد ** ولو قتل النفس الحرام تعمدا

ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن برّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن ذرة من خير». وفي رواية «من إيمان».

.مطلب آخر الناس خروجا من النار وآخرهم دخولا في الجنة:

وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن الناس قالوا يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا لا يا رسول اللّه، قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول اللّه، قال فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة فيقول اللّه: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم اللّه فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم. قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا اللّه تعالى، تخطف الناس بأعمالهم. وهو نبت ذو شوك معقّف تأكله الإبل وهو من أجود مراعيها» والمراد أن كلاليب النار تقطعه حتى يلقيه بالنار فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من ينجدل أي يهلك وينصرع «ثم ينجو، حتى إذا أراد اللّه رحمة من أراد من أهل النار أمر اللّه الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد اللّه، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم اللّه على النار أن تأكل أعضاء السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا أي أحرقوا وأكلت جلودهم وبدت عظامهم، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل (بكسر الحاء) وهي جميع البذور وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه، ثم يفرغ من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني (آذاني وسمّني لأن القشب السم) ريحها وأحرقني ذكاؤها (اشتعالها ولهبها) فيقول هل عسيت أن أفعل ذلك بك، فتسأل غير ذلك؟ فيقول لا وعزتك، فيعطي اللّه ما شاء من عهد وميثاق، فيصرف اللّه وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها (حسنها ونضارتها وزهرتها) سكت ما شاء اللّه أن يسكت، ثم يقول يا رب قسمني عند باب الجنة، فيقول اللّه أليس قد أعطيت المواثيق والعهود بأن لا تسأل غير الذي كنت سألت! فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك، فيقول فما عسيت إن أعطيتك ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول وعزّتك لا أسأل غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء اللّه أن يسكت فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول اللّه تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما اغدرك، أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك اللّه عز وجل منه، ثم يؤذن له في دخول الجنة، فيقول تمنّ، حتى إذا انقطعت أمنيته، قال اللّه تمن كذا وكذا (أقبل يذكره ربه) حتى إذا انتهت به الأماني، قال اللّه: لك ذلك ومثله معه». قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة وعشرة أمثاله؟ قال أبو هريرة لم أحفظ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا قوله «لك مثل ذلك ومثله معه». قال أبو سعيد رضي اللّه عنه سمعته يقول «لك ذلك وعشرة أمثاله».
وهذا من لطف اللّه تعالى في هذا العبد لأنه يعلم في الأزل أنه أهل للجنة بشيء من عمله لا يعرفه هو. أنظر قوله صلى اللّه عليه وسلم: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض». وحديث البطاقة المار ذكره في الآية 7 من الأعراف، وحديث من رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأسقاه. لأن اللّه تعالى لا يضيع الذرة لعباده بل ينميها له بواسع فضله وهو لا يشعر.
وعن ابن مسعود قال: قال صلى اللّه عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها، رجل يخرج من النار حبوا، فيقول اللّه له اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول اللّه اذهب فادخل الجنة، قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول اللّه تعالى اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول تسخر بي وأنت المالك! فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» أضراسة وأنيابه وهي آخر الأسنان فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة. اهـ. بلفظها حرفيا. فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار، ودلت الثانية والأحاديث على أن اللّه أخرج منها المتقين والموحدين وترك فيها الظالمين المشركين فقط.
وقد جاء في الحديث: «تقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهي».
وروي عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} إلخ. قال من حم من المسلمين وردها، وفي الخبر: الحمى من فيح جهنم.
وفي خبر آخر: «الحمى كير من جهنم وهي حظّ المؤمن من النار» الآية 100 من سورة الأنبياء.
وقال خالد ابن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا أن نرد النار، فيقال: بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة.
وروى مسلم والبخاري عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «الحمى من فيح جهنم (أي وهجها) فأبردوها بالماء».
ولهذا فإن الطبّ الحديث يرى أن يغسل أطراف المحموم بالماء البارد، ومن كانت حمّاه برأسه يضعون على رأسه الثلج، وهذا من الطب النبوي المحتاج إلى عقيدة راسخة كما في الآية 25 من سورة القلم، لأن من لم يعتقد بالقرآن لا ينتفع بما فيه، بل يكون عليه وبالا، وسيأتي لهذا البحث في تفسير الآية 80 من سورة الإسراء الآتية بيان واضح واسع فراجعه.
هذا، وإن مذهب أهل السنة والجماعة هو أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة، ويجوز أن يعفو اللّه عنه، وهذه الطريقة يجب التمسك بها والجنوح إليها، فكل قول يخالف هذا باطل لا قيمة له إذ لا مستند له على الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.
أما أقوال المخالفين فهي كيفية لا عبرة بها وسنأتيك ببعضها، فمنهم المرجئة يقولون لا يعاقب المؤمن على ما يقترف من الذنوب كبائر كانت أو صغائر، لأن المعصية لا تضر مع الإيمان، قاتلهم اللّه.
وقالت فرقة أخرى إن المسلمين أهل الكبائر يكونون بمنزلة بين المنزلتين، أي لا يقال له مؤمن لعدم دخوله في عموم المتقين، ولا كافر لعدم دخوله في عموم الظالمين، فيكون بين بين، وهذا باطل أيضا إذ لا دار عند اللّه إلا الجنة أو النار، فمن نجا من النار دخل الجنة واللّه أعلم.
وهو القائل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} الآية 185 من آل عمران، راجع تفسير الآيات 7 و8 و31 من سورة فاطر المارة والآية 19 من سورة الفرقان المارة فيما يتعلق بفاعل الكبائر، أما ما يتعلق بالرؤية المار بحثها فراجع الآية 146 من سورة الأعراف، والآية 23 من سورة القيمة المارتين وما ترشدك إليه، قال تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} لا تحتاج إلى إثبات لأنها أعظم حجة وأدل دليل وأكبر برهان على قدرتنا وعجائب مخلوقاتنا ومبتدعات صنائعنا {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا} منزلا ومكانا وموضعا بين الناس {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} 73 مجلسا ومجتمعا، لأن النادي خصّ لمباحثات في الأمور العامة، أي إن هؤلاء الكفار عند ما تتبين لهم الدلائل وتظهر لهم البراهين على قدرتنا يعرضون عن التفكر بها والتدبر لمعانيها، ويقبلون على التفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد والمساكن والمجالس والتفاضل على المؤمنين بزينتهم وزخارفهم الدنيوية، لأنهم يقولون لو كان المؤمنون على الحق لصار حالهم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، إذ لا يليق بالحكيم أن يوقع أولياءه بالذل والحاجة ويجعل أعداءه بالعز والراحة، فيظهر من هذا أنا نحن على الحق بخلاف زعمهم، وهم على الباطل، ولهذا جعلنا أحسن منهم حالا ومكانة ومجلسا، فأنزل اللّه ما فيه إبطال قياسهم العقيم الناشئ عن رأيهم السقيم بقوله عز قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا} من هؤلاء المعجبين برياشهم وثروتهم ومجلسهم {وَرِءْيًا} 74 مرأى ومنظرا منهم مهما تزينوا بأنواع الألبسة وتعطروا بأصناف الطيب {قُلْ} لهم يا أكرم الرسل إن هذه الأمتعة الدنيوية التي يعطيها اللّه تعالى بعض خلقه لا تدل على حسن الحال وارتفاع المقام وعلو المنزلة، لأن {مَنْ كانَ} مخلوقا للتوغل {فِي الضَّلالَةِ} واقتراف أنواع المعاصي الواردة عن طريق الهوى من الكفرة أمثالكم {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} يمهله كي يتمادى في طغيانه إمهالا كثيرا ويستدرجه بإكثار النعم استدراجا يظن معه أن اللّه أهمله واللّه لا يهمل بل يمهل العبد إلى أن ينتهي أمره ويبلغ الغاية في انتهاك الحرمات وينسى صنع ربه فيه، فيأخذه بغتة ويقصفه على حين غفلة {حَتَّى إِذا رَأَوْا} هؤلاء المأخذون غرة {ما يُوعَدُونَ} على لسان رسلهم {إِمَّا الْعَذابَ} العاجل في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وذلا وموتا {وَإِمَّا السَّاعَةَ} القيامة التي عذابها أكبر وأدوم {فَسَيَعْلَمُونَ} حينذاك في إحدى الحالتين أو كلتيهما معا {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكانًا} هنا وعند اللّه {وَ} من هو {أَضْعَفُ جُنْدًا} 75 فئة وناصرا ومغيثا يوم القيامة أهم وهم في النار، أم نحن ونحن في الجنة، وفي الدنيا هم في حالة الغلب والمهانة، أم نحن في حالة النصر والعز، بل المؤمنون في الحالتين أحسن لأنهم هم المهتدون.
قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} ونورا على هداهم، ويزيد الظالمين عمى وضلالا على ضلالهم {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} من الأعمال الحسنة التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا} من حطام الدنيا الذي يتفاخر به هؤلاء الكفرة على المؤمنين {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} 76 من ذلك، أي مرجعا وعاقبة، لأن عاقبة الكفر الحسرة الأبدية، وعاقبة الإيمان النعيم المقيم، راجع تفسير الآية 39 المارة، وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وعليه معنى قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشرّ كما لخير كما الجزاء

وهو تهكم بالكفرة المذكورين القائلين أي الفريقين خير إلخ.
وقرئ {مقاما} بالضم، والفرق بينهما أن المقام بالفتح موضع القيام سواء أقام فيه بنفسه أو أقام فيه غيره بطريق المكث فيه أولا، وبضم الميم موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا، وقد سئل أبو السعود رحمه اللّه عن الفرق بينهما فقال:
يا وحيد الدهر شيخ الأنام ** نبتغي فرق المقام والمقام

فأجابه رحمه اللّه بلفظ:
إن أقمت فيه فهو مقام ** وإن أقمت فيه فهو المقام

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ} يا حبيبي أعلمت هذا {الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ} وهو على كفره {لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا} 77 ما أجهله يتمنى على اللّه الأماني وهو لا يعبده ويشرك معه غيره {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} هذا الأحمق حتى يقول هذا الكلام ويقسم عليه {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا} 78 بأن يؤتيه ذلك {كَلَّا} لم بطلع على الغيب ولم يأخذ عهدا من اللّه، وإنما قال ذلك تكبرا وتجبرا وعتوا على اللّه القائل له ولأمثاله {سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ} من افتئاته علينا وتعاظمه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} 79 فنزيده عذابا فوق عذابه بسبب قوله هذا ونطيله عليه جزاء افترائه واجترائه حتى يظل معذبا دائما {وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ} بأن نهلكه ونجعل ماله وولده إرثا لغيره {وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْدًا} 80 لا مال له ولا ولد ولا قرابة ولا أصدقاء، راجع الآية 48 من سورة الكهف والآية 93 من سورة الأنعام.
روى البخاري ومسلم عن خبّاب بن الأرت أن رجلا من الأزد قال كنت رجلا قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين، فأتيته أتقاضاه، وفي رواية فعلت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت لا أكفر حتى يميتك اللّه تعالى ثم تبعث، قال وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت بلى، قال دعني أموت وأبعث، فأوتى مالا وولدا فأقضيك، فأنزل اللّه فيه هذه الآية، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} 81 في الدنيا يعتزون بها ويمتنعون من العذاب في الآخرة على زعمهم الباطل، قال تعالى: {كَلَّا} لا تفيدهم عزا في الدنيا ولا منعة في الآخرة وهذا زجر لهم ورد لكلامهم الكاذب.